الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} وَكَانَتِ امْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ فِي تِلْكَ الْحَالِ قَائِمَةً أَيْ: وَاقِفَةً- وَلَعَلَّ قِيَامَهَا كَانَ لِلْخِدْمَةِ- فَضَحِكَتْ. قِيلَ: تَعَجُّبًا مِمَّا رَأَتْ وَسَمِعَتْ، وَقِيلَ: سُرُورٌ بِالْأَمْنِ مِنَ الْخَوْفِ أَوْ بِقُرْبِ عَذَابِ قَوْمِ لُوطٍ لِكَرَاهَتِهَا لِسِيرَتِهِمُ الْخَبِيثَةِ، وَقِيلَ: تَعَجُّبًا مِنَ الْبِشَارَةِ بِالْوَلَدِ، وَهَذَا يَكُونُ أَوْلَى إِنْ كَانَتِ الْبِشَارَةُ قَبْلَ الضَّحِكِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا بَعْدَهُ لِعَطْفِهَا عَلَيْهِ بِالْفَاءِ وَهُوَ {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ فِيهِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَلَا مُقْتَضَى وَلَا مُصَوِّغَ لَهُ؛ لِأَنَّ لِضَحِكِهَا أَسْبَابٌ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا وَزَادَ غَيْرُنَا عَلَيْهَا، عَلَى أَنَّ بِشَارَتَهَا كَانَتْ بِالتَّبَعِ لِبِشَارَةِ بَعْلِهَا وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي سُوَرِ: الْحِجْرِ، وَالصَّافَّاتِ، وَالذَّارِيَاتِ خَاصًّا بِهِ، أَيْ بَشَّرْنَاهَا بِالتَّبَعِ لِتَبْشِيرِهِ بِإِسْحَاقَ، وَمِنْ بَعْدِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ، يَعْنِي أَنَّهُ سَيَكُونُ لِإِسْحَاقَ وَلَدٌ أَيْضًا. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ (يَعْقُوبَ) مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ تُفَسِّرُهُ قَرِينَةُ الْكَلَامِ كَوَهَبْنَاهَا مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ، كَمَا قَالَ: {وَوَهَبَنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} 6: 84 وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيَعْقُوبُ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْوَرَاءَ وَلَدُ الْوَلَدِ.{قَالَتْ يَا وَيْلَتَا} أَصْلُهَا يَا وَيْلِي (كَمَا قَالَ: يَا عَجَبًا بَدَلَ: يَا عَجَبِي) وَهِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَمَا يَفْجَأُ الْإِنْسَانَ أَمْرٌ مُهِمٌّ مِنْ بَلِيَّةٍ أَوْ فَجِيعَةٍ أَوْ فَضِيحَةٍ تَعَجُّبًا مِنْهُ أَوِ اسْتِكْبَارًا لَهُ أَوْ شَكْوَى مِنْهُ، وَأَكْثَرُ مَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ النِّسَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَنِسَاءِ مِصْرَ يَقُلْنَ: يَا دَهْوَتِي {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} عَقِيمٌ لَا يَلِدُ مِثْلُهَا {وَهَذَا بَعْلِي} وَأَشَارَتْ إِلَيْهِ كَمَا تَرَوْنَ {شَيْخًا} كَبِيرًا لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ {إِنَّ هَذَا} الَّذِي بَشَّرْتُمُونَا بِهِ، {لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ مِائَةَ سَنَةٍ، وَأَنَّ زَوْجَهُ سَارَةَ هَذِهِ كَانَتِ ابْنَةَ تِسْعِينَ سَنَةً وَمِثْلُهَا لَا يَلِدُ، بَلِ الْغَالِبُ أَنْ يَنْقَطِعَ حَيْضُ الْمَرْأَةِ فِي سِنِّ الْخَمْسِينَ فَيَبْطُلُ اسْتِعْدَادُهَا لِلْحَمْلِ وَالْوِلَادَةِ، عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ عَقِيمًا كَمَا فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ. فَأَمَّا الرِّجَالُ فَلَا يَزَالُ يُوجَدُ فِي الْمُعَمِّرِينَ مِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ لَهُ فِي سِنِّ الْمِائَةِ وَمَا بَعْدَهَا وَلَكِنَّهُ نَادِرٌ. وَقَدْ حَدَّثَتْنَا صُحُفُ الْأَخْبَارِ عَنْ رَجُلٍ تُرْكِيٍّ مِنْهُمْ اسْمُهُ (زَارُو أَغَا) مَاتَ فِي هَذَا الْعَامِ (1353هـ) عَنْ مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ عَامًا. ثُمَّ عَنْ رَجُلٍ عَرَبِيٍّ فِي الْعِرَاقِ قَرِيبٍ مِنْ عُمْرِهِ لَا يَزَالُ حَيًّا وَقَدْ وُلِدَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَعْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ عَنْ رَجُلٍ عَرَبِيٍّ سُورِيٍّ مِنْ مَجْدَلِ زَوِينَ التَّابِعِ لِقَضَاءِ صُورَ اسْمُهُ: السَّيِّدُ حُسَيْن هَاشِم عُمْرُهُ 125 سَنَةً بِشَهَادَةِ الْمَحْكَمَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَمُخْتَارِ بَلْدَتِهِ، وَهُوَ لَا يَزَالُ مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ جَيِّدَ الصِّحَّةِ قَوِيَّ الذَّاكِرَةِ، وَقَدْ تَزَوَّجَ أَوَّلًا وَهُوَ فِي سَنِّ الْعِشْرِينَ، وَثَانِيًا وَهُوَ فِي الْعِشْرِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ، رُزِقَ مِنَ الْأُولَى 14 وَلَدًا مِنْهُمْ 12 ذَكَرًا وَمِنَ الثَّانِيَةِ وَلَدًا وَاحِدًا، وَيَعِيشُ عِيشَةً فِطْرِيَّةً إِسْلَامِيَّةً.وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَارَّةَ عَلِمَتْ مِنْ حَالِ بَعْلِهَا أَنَّهُ بَعْدَ وِلَادَةِ هَاجَرَ لِابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ بِزَمَنٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ فَقَدَ الِاسْتِعْدَادَ لِإِتْيَانِ النِّسَاءِ، أَوْ كَانَتْ تَعْتَقِدُ كَمَا يُعْتَقَدُ أَنَّ مِثْلَهُ فِي تِلْكَ السِّنِّ لَا يُولَدُ لَهُ، فَقَدْ قَالَ هُوَ لِلْمَلَائِكَةِ: {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ} 15: 54 وَيَكْفِي فِي خَرْقِ الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ قِيلِهَا هِيَ وَلِذَلِكَ أَنْكَرُوا عَلَيْهَا.{قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ} هَذَا الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ لِاسْتِفْهَامِهَا التَّعَجُّبِيِّ، أَيْ لَا يَنْبَغِي لَكِ أَنْ تَعْجَبِي مِنْ شَيْءٍ هُوَ مِنْ أَمْرِ اللهِ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 36: 82 وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْعَجَبُ مِنْ وُقُوعِ مَا يُخَالِفُ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ وَاضِعُ السُّنَنِ وَنِظَامِ الْأَسْبَابَ هُوَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْهَا وَاقِعَةً يَجْعَلُهَا مِنْ آيَاتِهِ؛ لِحِكْمَةٍ مِنْ حِكَمِهِ فِي عِبَادِهِ: {رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} هَذِهِ جُمْلَةٌ دُعَائِيَّةٌ اسْتُجِيبَتْ، فَمَعْنَاهُ الَّذِي فَسَّرَهُ الزَّمَانُ إِلَى الْآنِ: رَحْمَةُ اللهِ الْخَاصَّةُ وَبَرَكَاتُهُ الْكَثِيرَةُ الْوَاسِعَةُ عَلَيْكُمْ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، تَتَّصِلُ وَتَتَسَلْسَلُ فِي نَسْلِكُمْ وَذُرِّيَّتِكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا مَحَلَّ لِلْعَجَبِ أَنْ يَكُونَ مِنْ آيَاتِهِ تَعَالَى أَنْ يَهَبَ رَسُولَهُ وَخَلِيلَهُ الْوَلَدَ مِنْكُمَا فِي كِبَرِكُمَا وَشَيْخُوخَتِكُمَا، فَمَا هِيَ بِأَوَّلِ آيَاتِهِ لَهُ وَقَدْ نَجَّاهُ مِنْ نَارِ قَوْمِهِ الظَّالِمِينَ، وَآوَاهُ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكَ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ.وَهَذِهِ الرَّحْمَةُ وَالْبَرَكَاتُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِمْ، إِرْثٌ أَوْ تَجْدِيدٌ لِمَا هَبَطَ بِهِ نُوحٌ مِنَ السَّلَامِ وَالْبَرَكَاتِ عَلَيْهِ {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَهُ} كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ (48) {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} إِنَّهُ- جَلَّ جَلَالُهُ- مُسْتَوْجِبٌ لِأَنْوَاعِ الثَّنَاءِ وَالْحَمْدِ، حَقِيقٌ بِأَسْنَى غَايَاتِ الْمَجْدِ، وَبِتَأْثِيلِهِمَا لِأَهْلِ الْبَيْتِ. وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَأَصْلُ الْمَجْدِ فِي اللُّغَةِ أَنْ تَقَعَ إِبِلٌ فِي أَرْضٍ وَاسِعَةِ الْمَرْعَى، يُقَالُ: مَجَدَتْ تَمْجُدُ (مِنْ بَابِ نَصَرَ) مَجْدًا وَمُجَادَةً، وَأَمْجَدَهَا الرَّاعِي، وَالْمَجْدُ فِي الْبُيُوتِ وَالْأَنْسَابِ مَا يَعُدُّهُ الرَّجُلُ مِنْ سَعَةِ كَرَمِ آبَائِهِ وَكَثْرَةِ نَوَالِهِمْ، وَوَصَفَ اللهُ كِتَابَهُ بِالْمَجِيدِ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِهِ لِسَعَةِ هِدَايَةِ كِتَابِهِ، وَسَعَةِ كَرَمِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دُعَاءَ الصَّلَاةِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ أُمَّتَهُ عَقِبَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ مِنَ الصَّلَاةِ.{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)}.{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} أَيْ: فَمَا سُرِّيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَانْكَشَفَ مَا رَاعَهُ مِنَ الْخِيفَةِ وَالرُّعْبِ، إِذْ عَلِمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الرُّسُلَ مِنْ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى بِالْوَلَدِ وَاتِّصَالِ النَّسْلِ، أَخَذَ يُجَادِلُ رُسُلَنَا فِيمَا أَرْسَلْنَاهُمْ بِهِ مِنْ عِقَابِ قَوْمِ لُوطٍ، جُعِلَتْ مُجَادَلَتُهُمْ وَمُرَاجَعَتُهُمْ مُجَادَلَةً لَهُ- تَعَالَى-؛ لِأَنَّهَا مُجَادَلَةٌ فِي تَنْفِيذِ أَمْرِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: {يُجَادِلُنَا} دُونَ (جَادَلَنَا)- وَالْأَصْلُ فِي جَوَابِ، {لَمَّا} أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا- لِتَصْوِيرِ تِلْكَ الْحَالِ كَأَنَّهَا حَاضِرَةٌ، أَوْ لِتَقْدِيرِ مَاضٍ قَبْلَهُ كَالَّذِي قُلْنَا، وَالْمُرَادُ بِالْمُجَادَلَةِ مَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لِنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} 29: 31 و32.{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَاهٌ مُنِيبٌ} هَذَا تَعْلِيلٌ لِمُجَادَلَةِ إِبْرَاهِيمَ فِي عَذَابِ قَوْمِ لُوطٍ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ حَلِيمًا لَا يُحِبُّ الْمُعَاجَلَةَ بِالْعِقَابِ، كَثِيرَ التَّأَوُّهِ مِمَّا يَسُوءُ وَيُؤْلِمُ، مُنِيبٌ يَرْجِعُ إِلَى اللهِ فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَصْفُهُ بِالْأَوَّاهِ الْحَلِيمِ فِي الْآيَةِ (9: 114).وَهَذِهِ الْمُجَادَلَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا هُنَا الْمُجْمَلَةُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ مُفَصَّلَةٌ فِي الْفَصْلِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَجُعِلَتْ فِيهِ مُجَادَلَةً لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ لَا لِرُسُلِهِ، فَفِي أَوَّلِهِ أَنَّ الرَّبَّ ظَهَرَ لِإِبْرَاهِيمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَابِ الْخَيْمَةِ فَظَهَرَ لَهُ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ، وَذُكِرَ خَبَرُ ضِيَافَتِهِ لَهُمْ بِالْعِجْلِ وَخُبْزِ الْمِلَّةِ وَأَنَّهُمْ أَكَلُوا وَبَشَّرُوهُ بِالْوَلَدِ، وَأَنَّ امْرَأَتَهُ سَارَةَ سَمِعَتْ فَضَحِكَتْ وَتَعَجَّبَتْ، وَعَلَّلَتْ تَعَجُّبَهَا بِكِبَرِهَا وَانْقِطَاعِ عَادَةِ النِّسَاءِ عَنْهَا (13 فَقَالَ الرَّبُّ لِإِبْرَاهِيمَ لِمَاذَا ضَحِكَتْ سَارَةُ هَلْ يَسْتَحِيلُ عَلَى الرَّبِّ شَيْءٌ؟) إِلَخْ.ثُمَّ قَالَ: 22 وَانْصَرَفَ الرِّجَالُ (يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ) مِنْ هُنَاكَ وَذَهَبُوا نَحْوَ سَدُومَ (أَيْ: قَرْيَةِ قَوْمِ لُوطٍ) وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ قَائِمًا أَمَامَ الرَّبِّ 23 فَتَقَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ وَقَالَ: أَفَهَلَكَ الْبَارُّ مَعَ الْأَثِيمِ 24 عَسَى أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ خَمْسُونَ بَارًا فِي الْمَدِينَةِ، أَفَتُهْلِكُ الْمَكَانَ وَلَا تَصْفَحُ عَنْهُ مِنْ أَجْلِ الْخَمْسِينَ بَارًّا الَّذِينَ فِيهِ؟ (26 فَقَالَ الرَّبُّ: إِنْ وَجَدْتُ فِي سَدُومَ خَمْسِينَ بَارًّا فَإِنِّي أَصْفَحُ عَنِ الْمَكَانِ كُلِّهِ مِنْ أَجْلِهِمْ) ثُمَّ كَلَّمَهُ إِبْرَاهِيمُ مِثْلَ هَذَا فِي خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ فِي أَرْبَعِينَ ثُمَّ فِي ثَلَاثِينَ ثُمَّ فِي عِشْرِينَ ثُمَّ فِي عَشَرَةٍ، وَالرَّبُّ يَعِدُهُ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ بِأَنَّهُ مِنْ أَجْلِهِمْ لَا يُهْلِكُ الْقَوْمَ (ثُمَّ قَالَ) 33 وَذَهَبَ الرَّبُّ عِنْدَمَا فَرَغَ مِنَ الْكَلَامِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ إِلَى مَكَانِهِ. اهـ.فَتَأَمَّلِ الْفَرْقَ بَيْنَ عِبَارَاتِ الْقُرْآنِ الْوَجِيزَةِ الْمُفِيدَةِ الْمُنَزِّهَةِ لِلرَّبِّ تَعَالَى عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ، وَعِبَارَاتِ مَا يُسَمُّونَهُ التَّوْرَاةَ فِي تَشْبِيهِ اللهِ بِعِبَادِهِ وَتَطْوِيلِهَا غَيْرِ الْمُفِيدِ!{يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِمَا أَجَابَتْهُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ عَنِ اللهِ- تَعَالَى-، أَيْ أَعْرِضْ عَنِ الْجِدَالِ فِي أَمْرِ قَوْمِ لُوطٍ وَالِاسْتِرْحَامِ لَهُمْ: {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} أَيْ: إِنَّ الْحَالَ وَالشَّأْنَ فِيهِمْ قَدْ قُضِيَ بِمَجِيءِ أَمْرِ رَبِّكَ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهُمْ {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} بِجِدَالٍ وَلَا شَفَاعَةٍ فَهُوَ وَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ.فَهَلْ يَعْتَبِرُ بِهَذَا مَنْ يَتَّخِذُونَ لِلَّهِ أَنْدَادًا مِنْ أَوْلِيَائِهِ أَوْ أَوْلِيَائِهِمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْكَوْنِ كَمَا يَشَاءُونَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 39: 34 و42: 22 هُوَ لِهَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَرُدُّ لَهُمْ طَلَبًا وَلَا شَفَاعَةً وَلَا يُرِيدُ مَا لَا يُرِيدُونَهُ! يَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ وَيُحَرِّفُونَ كِتَابَهُ، وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ مُؤْمِنُونَ بِأَنَّ أَفْضَلَ الْخُلُقِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ جَدُّهُ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِمَا وَآلِهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟
يقال: راعَه يَرُوْعُه أي: أفزعه، قال عنترة: وارتاع: افتعل منه. قال النابغة: وأمَّا الرُّوْعُ بالضم فهي النفسُ لأنها محلُّ الرَّوْع، ففرَّقوا بين الحالِّ والمَحَلِّ. وفي الحديث: «إنَّ رُوْحَ القدس نفث في رُوْعي».قوله: {وَجَاءَتْهُ البشرى} عطف على {ذَهَب} وجوابُ {لَمَّا} على هذا محذوفٌ أي: فلما اكن كيت وكيت اجترأ على خطابهم، أو فَطِن لمجادلتهم، وقوله: {يُجادلنا} على هذا جملةٌ مستأنفة، وهي الدالَّةُ على ذلك الجوابِ المحذوفِ. وقيل: تقديرُ الجواب: أقبل يجادِلُنا، فيجادلُنا على هذا حالٌ من فاعل {أَقبل}. وقيل: جوابها قوله: {يجادِلُنا} وأوقع المضارعَ موقعَ الماضي. وقيل: الجوابُ قولُه: {وَجَاءَتْهُ البشرى}، وهو الجوابُ والواوُ زائدةٌ. وقيل: {يجادلنا} حال من {إبراهيم}، وكذلك قولُه: {وجاءَتْه البشرى} وقد مقدرةٌ. ويجوز أن يكونَ {يجادِلُنا} حالًا من ضمير المفعول في {جاءَتْه}. و{في قوم} أي: في شأنهم.{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)}قوله تعالى: {أَوَّاهٌ}: فعَّال مِنْ أوَّهَ، وقد تقدم اشتقاقه.{يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)}قوله تعالى: {آتِيهِمْ عَذَابٌ}: يجوز أن يكون جملةً من مبتدأ وخبر في محلِّ رفع خبرًا ل {إنهم}. ويجوز أن يكون {آتيهم} الخبر و{عذاب} المبتدأ، وجاز ذلك لتخصُّصِه بالوصف، ولتنكير {آتيهم} لأنَّ إضافتَه غيرُ محضة. ويجوز أن يكون {آتيهم} خبر: «إن» و{عذاب} فاعلٌ به، ويدل على ذلك قراءةُ عمرو بن هَرِم: {وإنهم أتاهم} بلفظ الفعل الماضي. اهـ.
|